أ
مضار التدخين وحكمة في الدين
ما الدخان شربه والاتجار به والإعانة على ذلك فهو حرام لا يحل لمسلم تعاطيه؛ شربا، واستعمالا، واتجارا، وعلى من كان يتعاطاه أن يتوب إلى الله توبة نصوحا، كما يجب عليه أن يتوب من جميع الذنوب؛ وذلك أنه داخل في عموم النصوص الدالة على التحريم، داخل في لفظها العام وفي معناها؛ وذلك لمضاره الدينية والبدنية والمالية التي يكفي بعضها في الحكم بتحريمه، فكيف إذا اجتمعت؟!
فصل
أما مضاره الدينية ودلالة النصوص على منعه وتحريمه فمن وجوه كثيرة: منها: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
فهذه الآيات وما أشبهها حرم الله بها كل خبيث أو ضار، فكل ما يستخبث أو يضر فإنه لا يحل، والخبث والضرر يعرف بآثاره وما يترتب عليه من المفاسد، فهذا الدخان له مفاسد وأضرار كثيرة محسوسة كل أحد يعرفها، وأهله من أعرف الناس بها، ولكن إرادتهم ضعيفة، ونفوسهم تغلبهم مع شعورهم بالضرر، وقد قال العلماء: (يحرم كل طعام وشراب فيه مضرة).
ومن مضاره الدينية: أنه يثقل على العبد العبادات والقيام بالمأمورات خصوصا الصيام، وما كرّه العبد للخير فإنه شر، وكذلك يدعو إلى مخالطة الأرذال، ويزهد في مجالس الأخيار كما هو مشاهد، وهذا من أعظم النقائص أن يكون العبد مؤالفا للأشرار متباعدا عن الأخيار، ويترتب على ذلك العداوة لأهل الخير والبغض لهم، والقدح فيهم والزهد في طريقهم، ومتى ابتلي به الصغار والشباب سقطوا بالمرة ودخلوا في مداخل قبيحة، وكان ذلك عنوانا على سقوط أخلاقهم فهو باب لشرور كثيرة فضلا عن ضرره الذاتي.
فصل
وأما أضراره البدنية: فكثيرة جدا، فإنه يوهن القوة ويضعفها، ويضعف البصر، وله ريان ونفوذ في البدن والعروق، فيوهن القوى، ويمنع الانتفاع الكلي بالغذاء، ومتى اجتمع الأمران اشتد الخطر وعظم البلاء.
ومنها: إضعاف القلب، واضطراب الأعصاب، وفقد شهية الطعام.
ومنها: السعال، والنزلات الشديدة التي ربما أدت إلى الاختناق وضيق التنفس، فكم له من قتيل أو مشرف على الهلاك.
وقد قرر غير واحد من الأطباء المعتبرين أن لشرب الدخان الأثر الأكبر في الأمراض الصدرية، وهي السل وتوابعه، وله أثر محسوس في مرض السرطان، وهذه من أخطر الأمراض وأصعبها. فيا عجبا لعاقل حريص على حفظ صحته وهو مقيم على شربه مع مشاهدة هذه الأضرار أو بعضها! فكم تلف بسببه خلق كثير! وكم تعرض منهم لأكثر من ذلك! وكم قويت بسببه الأمراض البسيطة حتى عظمت وعز على الأطباء دواؤها! وكم أسرع بصاحبه إلى الانحطاط السريع من قوته وصحته!.
ومن العجب أن كثيرا من الناس يتقيدون بإرشادات الأطباء في الأمور التي هي دون ذلك بكثير، فكيف يتهاونون بهذا الأمر الخطير! ذلك لغلبة الهوى واستيلاء النفس على إرادة الإنسان، وضعف إرادته عن مقاومتها وتقديم العادات على ما تعلم مضرته. ولا تستغرب حالة كثير من الأطباء الذين يدخنون وهم يعترفون بلسان حالهم أو لسان مقالهم بمضرته الطبية، فإن العادات تسيطر على عقل صاحبها وعلى إرادته، ويشعر كثيرا أو أحيانا بالمضرة وهو مقيم على ما يضره.
وهذه المضار أشرنا إليها إشارة، مع ما فيه من تسويد الفم والشفتين والأسنان، وسرعة بلائها وتحطمها وتآكلها بالسوس، وانهيار الفم والبلعوم ومداخل الطعام والشراب حتى يجعلها كاللحم المنهار المحترق تتألم مما لا يتألم منه.
وكثير من أمراض الالتهابات ناشئة عنه، ومن تتبع مضاره وجدها أكثر مما ذكرنا.
فصل
وأما مضاره المالية: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن إضاعة المال، وأي إضاعة أبلغ من حرقه في هذا الدخان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا نفع فيه بوجه من الوجوه، حتى أن كثيرا من المنهمكين فيه يغرمون الأموال الكثيرة، وربما تركوا ما يجب عليهم من النفقات الواجبة، وهذا انحراف عظيم، وضرر جسيم فصرف المال في الأمور التي لا نفع فيها منهي عنه، فكيف بصرفه بشيء محقق ضرره!.
ولما كان الدخان بهذه المثابة مضرا بالدين والبدن والمال، كانت التجارة فيه محرمة، وتجارته بائرة غير رابحة، وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه وإن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلى بالقلة في آخر أمره وتكون عواقبه وخيمة، ثم إن النجديين ولله الحمد جميع علمائهم متفقون على تحريمه ومنعه، والعوام تبع للعلماء فلا يسوغ ولا يحل للعوام أن يتبعوا الهوى ويتأولوا ويتعللوا بأنه يوجد من علماء الأمصار من يحلله ولا يحرمه، فإن هذا التأويل من العوام لا يحل باتفاق العلماء، فإن العوام تبع لعلمائهم ليسوا مستقلين، وليس لهم أن يخرجوا عن أقوال علمائهم وهذا واجبهم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
وما نظير هذا التأويل الفاسد الجاري على ألسنة بعض العوام - اتباعا للهوى لا اتباعا للحق والهدى - إلا كما لو قال بعضهم: يوجد بعض علماء الأمصار لا يوجبون الطمأنينة في الصلاة فلا تنكروا علينا إذا اتبعناهم، أو يوجد من يبيح ربا الفضل فلنا أن نتبعهم، أو يوجد من لا يحرم أكل ذوات المخالب من الطير فلنا أن نتبعهم، ولو فتح هذا الباب فتح على الناس شر كبير، وصار سببا لانحلال العوام عن دينهم، وكل أحد يعرف أن تتبع مثل هذه الأقوال المخالفة، لما دلت عليه الأدلة الشرعية، ولما عليه أهل العلم، من الأمور التي لا تحل ولا تجوز.
والميزان الحقيقي: هو ما دلت عليه أصول الشرع وقواعده، وقد دلت على تحريم الدخان؛ لما يترتب عليه من المفاسد والمضار المتنوعة، وكل أمر فيه ضرر على العبد: في دينه، أو بدنه، أو ماله من غير نفع فهو محرم. فكيف إذا تنوعت المفاسد وتجمعت، أليس من المتعين شرعا وعقلا وطبا تركه والتحذير منه ونصيحة من يقبل النصيحة! فالواجب على من نصح نفسه وصار لها عنده قدر وقيمة أن يتوب إلى الله عن شربه، ويعزم عزما جازما مقرونا بالاستعانة بالله لا تردد فيه ولا ضعف عزيمة، فإن من فعل ذلك أعانه الله على تركه وهون عليه ذلك.
ومما يهون عليه الأمر أن يعرف أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وكما أن ثواب الطاعة الشاقة أعظم مما لا مشقة فيه، فكذلك ثواب تارك المعصية إذا شق عليه الأمر وصعب أعظم أجرا وأعظم ثوابا، فمن وفقه الله وأعانه على ترك الدخان فإنه يجد المشقة في أول الأمر ثم لا يزال يسلو شيئا فشيئا حتى يتم الله نعمته عليه، فيغتبط بفضل الله عليه وحفظه وإعانته، وينصح إخوانه بما ينصح به نفسه والتوفيق بيد الله، ومن علم الله من قلبه صدق النية في طلب ما عنده بفعل المأمورات وترك المحظورا
ت يسره لليسرى، وجنبه العسرى، وسهل له طرق الخير كلها.
فنسأل الله أن يأخذ بنواصينا إلى الخير، وأن يحفظنا من الشر، إنه جواد كريم، رءوف رحيم.